كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وسرّ الإضلال والاستهزاء والمكر والخداع ونحو ذلك- ممّا أضافه الحقّ إلى نفسه، وتحيّر أكثر العقول عن نسبته إلى الحقّ تنزيها له- هو من باب تسمية الفرع باسم الأصل إذ مكر العبد- مثلا- واستهزاؤه هو الأصل المتقدّم الجالب ما ذكر، والمسمّى مكرا واستهزاء وغير ذلك من هذه الأوصاف التي لا يعرف الأكثرون كمالها إنّما يظهر ويتعيّن بهذا الحكم من سرّ {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} فافهم، والله المرشد.
مراتب الضلال:
ثم اعلم، أنّه قد كنّا نبّهناك على أنّ الضلال الحيرة، وأنّ لها ثلاث مراتب، كما لباقي الصفات المنبّه عليها:
فالمرتبة الأولى: تختصّ بحيرة أهل البدايات من جمهور الناس. وحكم الثانية يظهر في المتوسّطين من أهل الكشف والحجاب. وحكم الثالثة مختصّ بأكابر المحقّقين.
أمّا سبب الحيرة الأولى العامّة فهو كون الإنسان فقيرا طالبا بالذات، فلا يمرّ عليه نفس يخلو فيه من الطلب لما ذكرنا من فقره الذاتي، وذلك الطلب متعلّقة في نفس الأمر الكمال الذي هو غاية الطالب، ولنفس ذلك الطلب فروع متعلّقة بمطالب ليست مرادة لأنفسها، كالطلب المتعلّق بالمأكل والمشرب ونحوهما ممّا يعيّنه الوقت لجلب منفعة جزئيّة، أو دفع مضرّة مثلها، والغايات تتعيّن بالهمم والمقاصد والمناسبات الداعية الجاذبة وغير ذلك ممّا سبق ذكره مستوفى.
فما لم يتعيّن للإنسان وجهة يرجّحها، أو غاية يتوخّاها، أو مذهب أو اعتقاد يتقيّد به بقي حائرا قلقا لأنّه مقيّد من حيث النشأة والحال وأكثر ما هو فيه، فلا غنى له عن الركون إلى أمر يستند إليه ويربط نفسه به ويعوّل عليه.
وهكذا أمره فيما يعانيه من الأشغال والحرف أو الصنائع، فإذا جذبته المناسبة بواسطة بعض الأحكام المرتبيّة رؤية أو سماعا انجذب إلى ما يناسبه من المراتب.
وهكذا الأمر بالنسبة إلى بواعث الإنسان المتعيّنة من نفسه فإنّ البواعث مخاطبات نفسانيّة داعية للمخاطب بها إلى الأصل الذي يستند إليه ذلك الباعث، وهذا هو السبب الأوّل في انتشار الملل والنحل والمذاهب المتفرّعة على ما عيّنه الحقّ بواسطة ضروب وحيه وإرشاد الرسل والأنبياء وكلّ مقتدى محقّ، فالحيرة سابقة شاملة الحكم لما ذكرناه من قبل في سرّ الهداية ولما نذكره عن قريب- إن شاء اللّه تعالى-.
وأوّل مزيل لها- أعني هذه الحيرة الأولى- تعيّن المطلب المرجّح، ثم معرفة الطريق الموصل، ثم السبب المحصّل، ثم ما يمكن الاستعانة به في تحصيل الغرض، ثم معرفة العوائق وكيفيّة إزالتها، فإذا تعيّنت هذه الأمور تزول هذه الحيرة.
ثم إنّ حال الإنسان- بعد أن يتعيّن له ما ذكرنا ويشرع في الطلب ويرجّح أمرا مّا يراه الغاية والصواب- على ضربين: إمّا أن يستحوشه ذلك الأمر بحيث أن لا يبقى فيه فضلة يطلب بها المزيد- كما هو حال أهل الاعتقادات والنحل غالبا- أو يبقى فيه فضلة من صحو، فتراه- مع ركونه إلى حال معيّن وأمر مخصوص- كأكثر من يرى يفحص أحيانا ويتلمّح عساه يجد ما هو أتمّ ممّا أدرك وأكثر جدوى مما يتوخّى تحصيله، أو حصّله، فإن وجد ما أقلقه ونبّهه انتقل إلى دائرة المقام الثاني. وحاله في هذا المقام كالحال المذكور في المقام الأوّل من أنّه لا يخلو من أمرين: إمّا أن يكون في كلّ ما يحصل له ويركن إليه مطمئنّا، مرتوبا، فاترا عن طلب المزيد، أو قد بقيت فيه أيضا فضلة تمنعه من الاستقرار، وسيّما إذا رأى المتوسّطين من الناس أهل هذا المقام قد تفرّقوا شيعا، وتحزّبوا أحزابا، وكلّ منهم يرى أنّه المصيب ومن وافقه، وأنّ الغير في ضلالة، ويرى مأخذ كلّ طائفة ومتمسّكها فلا يجدها تقوم على ساق، ويرى الاحتمال متطرّقا، والنقوض واردة، ويرى أنّ الحكم بالخطاء والإصابة، والحقّ والباطل، والضلال والهداية، والحسن والقبح، والضرر والنفع في هذه الأمور وغيرها من المتقابلات إنّما هو بالنسبة والإضافة، فإنّه يحار ولا يدري أيّ المعتقدات أصوب في نفس الأمر؟ وأيّ النحل والأحوال والأعمال أوفق وأنفع؟ فلا يزال حائرا حتى يغلب عليه آخر الأمر حكم مقام مّا من المقامات- التي يستند إليها بعض أهل العقائد والمذاهب- فينجذب إليه لما فيه من سرّه ويطمئنّ ويسكن أو يفتق له بالعناية أو بها ويصدّقه في طلبه وجدّه في عزيمته وبذله المجهود حال طلبه الحجاب، فيصير من أهل الكشف.
وحاله في أوّل هذا المقام كحاله فيما تقدم من أنّه إذا سمع المخاطبات العليّة، وعاين المشاهدات السنيّة، ورأى حسن معاملة الحقّ معه، وما فاز به ممّا فات أكثر العالمين، هل يستعبده بعض ذلك أو كلّه، أو يبقى فيه بقيّة من غلّة الطالب والصحو فيثبّت وينظر في قوله تعالى: {وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيّ حَكِيم} وفي أمثاله من الإشارات الربانيّة والتنبيهات النبويّة والكماليّة، فيتنبّه إلى أنّ كلّ ما اتّصل بالحجاب، أو تعيّن بالواسطة، فللحجاب والواسطة فيه حكم لا محالة، فلم يبق على طهارته الأصليّة ولا صرافته العليّة، فيتطرّق إليه الاحتمال، وسيّما إذا عرف سرّ الوقت والموطن والمقام الذي هو فيه، والحال والوصف الغالب عليه، أنّ لكلّ ممّا ذكر أثرا فيما يبدو له ويصل إليه، فلا يطمئنّ، وخصوصا إن تذكّر قوله صلّى اللّه عليه وآله حال رؤية الريح كلّ وقت، وتغيّر لونه، ودخوله وخروجه وقلقه، وقوله لمن سأله عن ذلك:
ولعلّه كما قال قوم عاد: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِض مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ} وفي قوله صلّى اللّه عليه وآله في غزاته ليلة بدر: «اللهمّ إن تهلك هذه العصابة لن تعبد في الأرض» وكقوله لمّا جاءه جبريل في المنام بصورة عائشة رضي اللّه عنها في سرقة حرير، وقال له: هذه زوجتك- ثلاث مرّات- بعد الثالثة: «إن يكن من عند الله يمضه» ولم يجزم ونحو ذلك مما يطول ذكره، مع قوله عليه السّلام: «زويت لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمّتي ما زوي لي منها».
وقوله عن العشر الفوارس من طلائع المهدي عليه السّلام الآتي في آخر الزمان، ويمينه صلّى اللّه عليه وآله: «واللّه إنّي لأعرف أسماءهم وأسماء آبائهم وقبائلهم وعشائرهم وألوان خيولهم»، فيطّلع على لون فرس وصورة شخص واسمه ونسبه قبل أن يخلق بستّمائة سنة وكسر، ولا يجزم، بل يخاف أن يقطع بأمنه دون ذلك، لعلمه بأنّ الله يمحو ما يشاء ويثبت، وأنّ حكم حضرة الذات- التي لا يعلم ما تقتضيه ولا ما الذي يتعيّن من كنه غيبها فتبديه، ويقتضي على إخباراته تعالى، وسيّما الواصلة بواسطة مظاهر رسالاته، والحاملة أصباغ أحكام حضرات أسمائه وصفاته {قُلْ ما كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} تنبيه وتأديب إلهي مانع من حصر الحقّ فيما أظهر وأخبر: «أدّبني ربي فحسّن أدبي» لا جرم كان صلّى اللّه عليه وآله كما ذكر عنه.
نعم، ولنعد الآن إلى إتمام حال السائر المتوسّط، وبيان سرّ حيرته، فنقول: فالإنسان المشار إليه- بعد تعدّيه ما ذكرنا من المراتب والأحوال وأحكام الحيرة- إذا تأمّل ما بيّنّاه الآن فإنّه مع كشفه وجلالة وصفه يحار لأنّه يرى من فوقه كما ذكرنا، ويعرف أنّ الحاصل له هو من فضلات تلك العطايا الأقدسيّة الحاصلة للكمّل، فيقول: لو كان ما حصل لي ولمثلي يقتضي الطمأنية لذاته، لكان الأعلى منّا بهذا الحال أجدر وأولى.
فحيث لم تقنعه ما رأى ما حصل، دلّ على أنّ الذي هو فيه أوجب وأرجح وأفضل، فتراه إذا- مع معرفة جلالة ما حصل له- لا يقف عنده ولا يركن إليه. وسيّما إذا رأى مشاركيه، ومن وافقه في مطلق الذوق والكشف يزيّف بعضهم ذوق البعض، ويرد بعضهم على بعض، كموسى مع الخضر وغيرهما.
وكلّ يحتجّ بالله وبما علّمه الله، والعدالة ثابتة والحقّ صدوق، ولكلّ منه سبحانه قسط، ولكن {فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيم}: {وَكُلًّا آتَيْنا حُكْمًا وَعِلْمًا} فما من طامّة إلّا وفوقها طامّة، ولا تقف وسر فالطريق وراء الحاصل، والأمر كما ترى وعند الصباح يحمد القوم السّرى والسلام.
واعلم، أنّ السرّ فيما ذكرنا هو أنّ الخلق كلّهم مظاهر الأسماء والصفات، ولكلّ اسم وصفة تجلّيات، وعلوم أحكام وآثار تظهر في كلّ من هو في دائرته وتحت حكمه وتصريفه كما بيّنّا أنّ كلّ صنف من الموجودات إنّما يستند إلى الحقّ، ويأخذ منه من حيثيّة اسم خاصّ هو سلطانه.
ولمّا كانت الأسماء متقابلة ومختلفة، وكانت أحكامها وأذواقها وآثارها وأحوالها أيضا كذلك ظهر للّبيب- وإن لم يكمل كشفه بعد- أنّ سبب الاختلاف هنا هو سبب الاختلاف في الأصل، فهي في التعيّن تابعة للخلق، والخلق في الحكم والحال تابعون لها.
ولمّا كان كلّ اسم من وجه عيّن المسمّى، ومن وجه غيره- كما بيّن من قبل- كان حكمها أيضا ذا وجهين: فالمحجوبون من أهل العقائد غلب عليهم حكم الوجه الذي به يغاير الاسم المسمّى، وأهل الأذواق المقيّدة غلب عليهم حكم الوجه الذي يتّحد به الاسم والمسمّى، مع بقاء التمييز والتخصيص الذي تقتضيه مرتبة ذلك الاسم، والأكابر لهم الجمع والإحاطة بالتجلّي الذاتي، وحكم حضرة أحديّة الجمع، فلا يتقيّدون بذوق ولا معتقد، ويقرّرون ذوق كلّ ذائق، واعتقاد كلّ معتقد، ويعرفون وجه الصواب في الجميع والخطاء النسبي، وذلك من حيث التجلّي الذاتي، الذي هو من وجه عين كلّ معتقد، والظاهر بحكم كلّ موافق ومخالف منتقد، فحكم علمهم وشهودهم يسري في كلّ حال ومقام، ولهم أصل الأمر المشترك بين الأنام، والسلام.
وصل في بيان سرّ الحيرة الأخيرة ودرجاتها وأسبابها:
اعلم، أنّ الإنسان إذا تعدّى كلّ ما ذكرناه، واستخلصه الحقّ لنفسه، واستصلحه لحضرة أحديّة جمعه وقدسه من جملة ما يطلعه عليه كلّيّات أحكام الأسماء والصفات المضافة إلى الكون والمضافة إليه سبحانه، والقابلة للحكمين، فمن جملة ما يشاهده في هذا الإطلاع المشار إليه الكمال الإلهي المستوعب كلّ اسم وصفة وحال، كما أشرت إليه الآن، وعلى ما ستعرفه أو تفهم عن قريب- إن شاء الله تعالى-، فيرى أنّ الصفات- الظاهرة الحسن والخفيّ حسنها- كلّها له وإليه مرجعها، وأنّها- من حيث هي له- حسنة كلّها عامّة الحكم، لا يخرج عن حيطتها أحد، فإنّه سبحانه كما أنّه محيط بذاته، كذلك هو محيط بصفاته.
وهذا الوصف المتكلّم فيه- أعني الحيرة- من جملة الصفات، وقد نبّهت الحقيقة بلسان النبوّة على أصلها في الجناب الإلهي بقوله: «ما تردّدت في شيء أنا فاعله تردّدي في قبض نسمة عبدي المؤمن» الحديث، وقد ذكرته من قبل، فعرّفنا أنّ ثمّة تردّدات كثيرة هذا أقواها، فافهم.
ولهذا نسب الإضلال سبحانه إليه بقوله: {يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ} وتسمّى به.
والفاتح لسرّ عموم حكمه، وأمثاله ما ذكرناه من أنّ الهداية والضلال وأمثالهما من الصفات المتقابلة إنّما تثبت بالنسبة والإضافة، فكلّ فرقة ضالّة بالنسبة إلى الفرقة المخالفة لها، فحكم الضلال إذا منسحب على الجميع من هذا الوجه، ومن حيث إنّ ترتّب حكم الناس على أكثر الأشياء هو بحسب ظنونهم وتصوّراتهم، مع اليقين الحاصل بالإخبار الإلهي وغيره: {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} وسيّما في الله، فإنّ الإحاطة لمّا كانت متعذّرة، كانت منتهى حكم كلّ حاكم فيه إنّما هو بمقتضى ما تعيّن له منه بحسبه، لا بحسب الحقّ من حيث هو لنفسه، وما لم يتعيّن منه أعظم وأجلّ ممّا تعيّن لأنّ نسبة المطلق إلى المقيّد نسبة ما لا يتناهى إلى المتناهي، بل لا نسبة بين ما تعيّن لمداركنا منه سبحانه وبين ما هو عليه في نفسه من السعة والعزّة والعظمة والإطلاق.
ثم إنّ المتعيّن أيضا منه لمّا لم يتعيّن إلّا بحسب حال القابل المعيّن وحكم استعداده ومرتبته علم أنّ القدر الذي عرف من سرّه لم يعلم على ما هو عليه في نفسه، وبالنسبة إلى علمه نفسه بنفسه، بل بالنسبة إلى استعداد العالم به وبحسبه.
وحيث ليس ثمّ استعداد يفي بالغرض، ويقضي بظهور الأمر عند المستعدّ بهذا الاستعداد- كما هو الأمر في نفسه- فلا علم إذا، وإذ لا علم فلا هداية، وإن قيل بها، فليس إلّا بالنسبة والإضافة.
وقد قال أكمل الخلق- لمّا سئل عن رؤيته ربّه-: «نور أنّى أراه؟». فأشار إلى العجز والقصور، وقال أيضا في دعائه: «لا أحصي ثناء عليك» أي لا أبلغ كلّ ما فيك وأعترف بالعجز عن الاطّلاع على كلّ أمره، وقال سبحانه منبّها على ذلك وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ، وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا والقليل هذا شأنه، فما ظنّك بما ليس بعلم عند العقلاء كلّهم، ولهذا نهى الناس عن الخوض في ذات اللّه، وحرّضوا على حسن الظنّ به وسيّما في أواخر الأنفاس.
ولمّا صحّ أنّ أقرب الأشياء نسبة إلى حقيقة الشيء روحه، وكان عيسى- على نبيّنا وعليه أفضل الصلاة والتسليم- روح الله ومن المقرّبين أيضا بإخبار الله وإخبار كلّ رسله عنه، ومع ذلك قال: تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ علمنا بهذا وسواه من الدلائل- التي لا تحصى كثرة ممّا أومأنا إليه وسكتنا عنه لوضوح الأمر وكونه بيّنا بنفسه- أنّ الاطّلاع على ما في نفس الحقّ متعذّر.
فالحاصل عندنا من المعرفة به المستفادة من إخباره سبحانه لنا عن نفسه هو بتقليد منّا له، وكذا ما نشهده وندركه بقوّة من قوانا الظاهرة أو الباطنة، أو بالمجموع، إنّما نحن مقلّدون في ذلك لقوانا ومشاعرنا.
وقصارى الأمر أن يكون الحقّ سمعنا وبصرنا وعقلنا، فإنّ ذلك أيضا لا يقضي بحصول المقصود لأنّ كينونته معنا وقيامه بنا بدلا من أوصافنا إنّما ذلك بحسبنا لا بحسبه كما بيّنّا، ولو لم يكن الأمر كذلك، لزم أن يكون كينونة الحقّ سمع عبده وبصره وعقله حاصلا وظاهرا على نحو ما هو الحقّ عليه في نفسه، فيرى العبد إذا كلّ مبصر ويسمع كلّ مسموع سمعه الحقّ وبصره. ولزم أيضا أن يعقل كلّ ما عقله الحقّ، وعلى نحو ما عقله.
ومن جملة ذلك- بل الأجلّ من كلّ ذلك- عقله سبحانه ذاته على ما هي عليه، ورؤيته لها كذلك، وسماعه كلامها وكلام سواها أيضا كذلك، وهذا غير واقع لمن صحّ له ما ذكرنا، ولمن تحقّق بأعلى المراتب وأشرف الدرجات، فما الظنّ بمن دونه؟
فإذا لكلّ من الحيرة في الله وفيما شاء نصيب، وتذكّر قوله: «في خمس من الغيب لا يعلمهنّ إلّا الله» وقوله: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} وقوله: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} وقوله: {وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ} وقوله: {ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ} وغير ذلك ممّا يطول ذكره، فافهم وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.